التربية الفنية الحديثة بين مطرقة اللوائح و سندان المعلمين !! .." DBAE نموذجاً
إن التربية الفنية مصطلح مركب يدخل في فهمه وتفسيره العديد من الخبرات البشرية في الفنون التشكيلية بفروعها المختلفة ، وخبرات نفسية ، واجتماعية ، وثقافية، وتتضمن إدراكاً لعمليات النمو والتنشئة والفروق بين الأفراد والجماعات … كما يدخل في فيها فهم التراث البشري الحضاري ، وهي تهدف إلى الوصول بالفن إلى التأثير في سلوك الجيل الناشئ ؛ وتكفل تكوين العادات والاتجاهات والمهارات والمعلومات التي تعين على تكامل شخصيات الأفراد من الزوايا الفنية والجمالية والتذوقية والإبداعية والقدرة النقدية .
والتربية الفنية كغيرها من المجالات المعرفية و التربوية تخضع للتطوير، والتجديد المستمر في محاولة لمواكبة التطورات التكنولوجية والمعرفية المتسارعة والتحولات الاجتماعية المعاصرة ، ولذلك فهي تتصل وتتواصل مع العلوم التربوية، والمعارف الإنسانية المختلفة ، فتستمد منها فلسفتها التربوية ، ومعلوماتها ، ومناهجها ، وطرق تقديمها وتقويمها .
ونظراً لذلك ونتيجة لجهود المؤسسات التربوية المتخصصة و علماء التربية والمختصين في التربية الفنية ، فقد شهدت التربية الفنية تطورات أكاديمية حاسمة منذ القرن التاسع عشر، وحتى العقود الأخيرة من القرن العشرين ، فخرجت من دائرتها الضيقة المنحصرة في تدريب التلاميذ على تلقي الأسس العامة للحرفة الفنية في الرسم والأشغال ، إلى مادة أكاديمية تحمل في طياتها العديد من المعلومات والمهارات المختلفة لتجمع بذلك بين المهارة والإبداع في إنتاج الأعمال الفنية المختلفة، وتنمية القدرات النقدية والتذوقية ، والإلمام بتاريخ وأسرار الفنون والحضارات الإنسانية المختلفة.
ولقد كان لمجموعة الأفكار التي طرحها برونر Bruner عام 1960 عن التربية والمناهج أثره الواضح في تغيير العديد من المفاهيم حول التطوير التربوي للمناهج الدراسية ؛ حيث ذكر في مقولته الشهيرة" إن لكل مصدر من مصادر المعرفة بنية أساسية ذات هيئة مميزة من الأفكار والمفاهيم والوسائل " وهذا ما دفع المختصين في التربية الفنية إلى البحث بجدية في تغيير الطريقة التي تدرس بها التربية الفنية ، والبحث عن منهجية جديدة …… هذا بالإضافة إلى ما قدم في مؤتمر ولاية بنسلفانيا من مشروعات عديدة ناقشت وبعمق الكثير من الموضوعات التي تهم التربية الفنية، وهدفت لدفع الحركة التصحيحية لمناهج التربية الفنية، وكان من أهمها كيفية الوصول إلى طرق أفضل لكتابة محتوى مناهج التربية الفنية ، والبحث عن طرق أفضل لكيفية تدريس هذه المناهج .
وتوالت المشروعات والمحاولات ، وأصبحت التربية الفنية مجالاً خصباً لحوارات واضعي ومخططي ومطوري المناهج ، وحظيت بإجراء العديد من الدراسات والبحوث العلمية التي اختلفت أساليبها ووسائلها ، إلى أن وصلت التربية الفنية إلى ما هي عليه الآن من تطور ونظريات حديثه ، منها على سبيل المثال : ما توصل إليه مركز جيتي للتربية في الفن The Gettey Center For Education In The Art حيث تمت صياغة مصطلح التربية الفنية كأحد ميادين المعرفة المنظمة أو كما ترجمه البعض التربية الفنية المنظمة ، أو نظرية المصدر المعرفي ( التربوي والفني ) كأساس للتربية الفنية Discipline Basd Art Education والذي عرف اختصاراً بـ ( DBAE ) وبدأت تجربته عام 1982م ولا يزال مع محاولات دائمة للتطوير .
وبالإمكان عرض لمحة سريعة عنها ؛ حيث يقوم تدريس التربية الفنية في نظرية ( DBAE ) على أربعة مجالات رئيسة هي :
- الإنتاج الفني .
- تاريخ الفن .
- النقد والتذوق الفني .
- علم الجمال .
وعلى الرغم من تناول مخططي مناهج التربية الفنية ، والقائمين على تدريسها لهذه المجالات الأربعة بشكل منفصل ، إلا أنها في حقيقة الأمر مجالات متداخلة ومترابطة ويؤثر كل منها في الآخر ، فهي تعمل على إثراء الخبرات الفنية من خلال توفيرها لمجموعة من المصادر الفنية المتعددة .
وفي حقيقة الأمر فإن (DBAE ) نظرية أو فلسفة خاصة، وليست منهجاً ، لذا فإن إطارها الرئيسي لا يتغير، وما عدا ذلك هو مجال للبحث والتجربة، وقد ترتب على ذلك وجود نماذج عديدة للمناهج المصممة في ضوئها، فالبعض قد يتناول أحد هذه المجالات ويعتبره مجالاً مركزياً تدور حوله أهداف المنهج، والمتأمل للعديد من المناهج التي صممت في ضوء هذه النظرية، وتضمنت دراسات في تاريخ الفن، والنقد الفني والتذوق الفني يلاحظ أنها كثيراً ما تناولت مجال الإنتاج الفني كمحور رئيسي، و وسيلة للتفاعل، والتكامل بين المجالات الثلاثة الأخرى .
من ذلك يمكن أن نستخلص أن هذه النظرية تهدف إلى وضع قاعدة صلبة من المعلومات والأطر النظرية التي يجب أن تُقدم للمتعلمين في مجالات تاريخ الفن والتذوق والنقد الفني وعلم الجمال .. مع دعم بالتطبيق العملي في مجال الإنتاج الفني .. وذلك وفق تسلسل علمي ومنطقي متكامل ومتداخل يضمن لنا تحقيق أهداف التربية الفنية .
وبالرغم من هذا .. يلحظ المتأمل في واقع التربية الفنية في بلادنا – وأقصد في المملكة العربية السعودية - بأنها وقعت بين مطرقة اللوائح الرسمية و سندان المعلمين غير المؤهلين .. وسأقول .. غير المكترثين " تأدباً " !!!
حيث ظلت الأهداف والخطط العامة الصادرة من الجهات المختصة تدور في حلقة مفرغة من التكرار " الممل " ، كما تميز غالبها بالعمومية أو "الهلامية " .. فلا المعلم قادر على تحديد معالمها وتفتيتها وتفعيلها في تطبيقاته التربوية ولا المهتمين ولا المستفيدين قادرين على فهمها واستيعاب أهميتها وهو ما يلقي بظلاله على التقدير الاجتماعي العام لها ؛ وعلى عمليات التقييم والتقويم التي يمكن بواسطتها التأكد من مدى فاعليتها في الوصول إلى الغايات التربوية المأمولة .
ومن جهة أخرى لا زالت بعض الأهداف " المتوارثة " تنادي بتحويل التربية الفنية إلى " تربية مهنية " !! وذلك من خلال تركيزها على ضرورة الاهتمام بالعمل اليدوي وتقديره والإشارات المتعددة إلى أهمية البحث في أسماء العدد والأدوات وتصنيفاتها !!
كما تمحورت غالبية الأهداف ؛ وأساليب التقويم ؛ والمناشط المقترحة حول مجال الإنتاج الفني مهملة بذلك المجالات الفنية والثقافية والتربوية الأخرى ولعلنا نعلم أن التربية الفنية وقبل أن تكون فناً .. هي تربية .. ولعل هذا ما يهمنا في هذا المقام .. فلازال الجميع يصرون وبشكل غريب على إعادة التربية الفنية إلى أساليبها التاريخية في تنمية المهارة الحرفية في النقل والمحاكاة .. وعلى التركيز على الممارسات العملية المكررة في الغالب وهو ما يضع التربية الفنية في حيّز ضيق لا يتناسب مع ما توصلت إلية النظريات الفنية والتربوية الحديثة .. ولا مع التطورات الاجتماعية الحالية .
إلى غير ذلك من الملاحظات المتعددة .. لعل آخرها هو ما تبشر به وزارتنا الموقرة حول إعداد منهج للتربية الفنية .. هذا المسمار الأخير الذي سيدق به نعش التربية الفنية .
أما المعلمون .. فبالرغم من بساطة ما يكلفون به في تلك التعاميم البالية إلا أنهم يضيقون ذرعاً بها .. ويركنون إلى اجترار خبراتهم وتجاربهم البائسة في كل عام .. ولا أودّ الخوض كثيراً في واقعهم المؤلم .. تأسياً بالمثل الشعبي " الضرب في الميت حرام " ..
من خلال ما سبق وبمقارنة بسيطة مع إحدى نظريات التربية الفنية الحديثة ( DBAE ) .. يتضح أن مسيرتنا العامة تسير في الإتجاه العكسي مع ما تشهده الساحة العالمية من تطورات " عميقة " ومستمرة في مجال التربية الفنية ..
يحلو الحديث عن هموم التربية الفنية .. وآمال المهتمين فيها ..
ولكني مضطر أن أختم مشاركتي بشكركم .. وخالص تحياتي .. وأسفي الشديد للإطالة عليكم .
Bookmarks